أيمن موسى
أيمن موسى


«موتٌ مُحقَّق» قصة قصيرة للكاتب أيمن موسى

صفوت ناصف

السبت، 05 أغسطس 2023 - 04:48 م

بغرفة الضيوف في المنتصف تمامًا، أحضر مقعدًا خشبيًّا اعتلاه بجسدٍ مُنهَك وأقدام مرتعشة، قام بربط حبل سميك بمروحة السقف تحسَّسه بيده؛ ليتأكَّد من متانته وقوة تحمُّله.

مرة أخرى صعد ليقف على المقعد بعد أن تيقَّن من قوة ومتانة الحبل، من ثَمَّ وضع رأسه بداخل تلك الحلقة من الحبل، والتي التفَّت بقوةٍ وإحكامٍ حول رقبته.

 

نطق الشهادتين ثم استغفر الله متوسِّلًا أن يسامحه على تلك الجريمة التي سيرتكبها بحق نفسه وأسرته قبل أن يركل المقعد بقدميه بقوة ودون تردُّد؛ خشية تراجُعه عمَّا انتواه، ليتأرجح جسده بقوة وبجميع الاتجاهات.

شعور مفاجئ بالاختناق وضيق شديد بالتنفُّس مع سرعة متزايدة بنبضات القلب.

سمع بأذنيه قرقعةً شديدةً لم تكن إلا صوت تحطُّم فقرات عُنقه، بعد أن تدلَّى بثقل جسده من ذلك الارتفاع.

شعر بجحوظ عينيه حتى أوشكتا أن تُغادرا محجريهما، صاحَبَ ذلك تنميل بالرأس كَسَريان النار بالهشيم.

شعور بالدوار والخدر يسري بكامل جسده رويدًا رويدًا، تبعه خمول وسكون يُنبئ بأنَّ الروح انسلَّت أو تكاد من جسده.

وكما بدأ كل شيء فجأةً انتهى فجأةً، ليصرخ بخوفٍ وفزعٍ وهو يقول:

- لااااااااااااااا.

أفاق من نومه فزِعًا مذعورًا يحاول باستماتة ابتلاع ريقه وهو يُردِّد الشهادتين ويستغفر الله بعد أن أدرك أنَّ ما عاشه منذُ لحظات لم يكن سوى كابوس مُرعِب.

 

نظر لساعته.. كانت تُشير للتاسعة صباحًا وهو وقت مُتأخِّر بالعادة؛ حيثُ إنه تعود الاستيقاظ مبكرًا للذهاب لعمله كـ (دليفري) عامل توصيل بأحد الكافيهات الشهيرة قبل أن يبلغوه بالعمل أن يأخذ إجازةً بدون راتب أو يبحث عن عمل جديد؛ نظرًا لتوقُّف العمل تماشيًا مع قرارات الحظر بإيقاف بعض الأنشطة.

 

غادر فراشه ليغسل وجهه من ثَمَّ عاد للغرفة، حيثُ ما زالت زوجته نائمةً؛ ليُوقظها برفق وحنو وهو يُخبرها أن تُجهِّز نفسها وطفلهما؛ كي يقوم بتوصيلها لمنزل والديها.

تململت بفراشها محاولةً طرد أثر النُّعاس من عينيها تغالب دهشتها وحيرتها لطلب زوجها أن تقوم بزيارة بيت أهلها، وهو مَن كان يرفض ويغضب منها؛ لكثرة زيارتها المتكررة.

بدهشة نظرت إليه وهي تقول: ولكنني لم أطلب منك الذهاب لبيت أهلي!

بلهجة متلعثمة وصوت متقطع جاهَدَ ليبدو طبيعيًّا قال لها:

- سيكون من الجيد زيارتهما والبقاء برفقتهما بعض الأيام؛ لرعايتهما.

بخوفٍ وقلقٍ قد بدوَا على ملامحها وبصوتٍ مرتعش سألته:

- هل هما بخير؟

هل أصابهما مكروه وأنت لا تريد إخباري؟

أقسَمَ لها أنهما بخير، فقط يريدها أن تمكث معهما لبعض الوقت.

باستسلام وحيرة قالت له: حسنًا، سأعدَّ الطفل وأرتدي ملابسي؛ لتقوم بتوصيلي إلى هناك.

جلس بالردهة ينتظرها بينما بصره مُعلَّق برسائل الهاتف بانتظار رسالة التضامن الاجتماعي بصرف منحة العمالة المتضرِّرة من الحظر.

فتح حافظة نقوده؛ ليتأكَّد أنَّ ما بداخلها يكفي قيمة المواصلات؛ لتوصيل زوجته بيت أهلها.

اعتراه شعور مؤلم بالعجز وهو يُخرِج تلك الورقة التي سجَّلت بها زوجته مستلزمات البيت من طعامٍ ومُنظِّفات وأشياء خاصة بالطفل.

تذكَّر تلك الإعلانات المتكررة للمشاهير من نجوم الفن والرياضة وبعض الإعلاميين الذين يُطالبونه وأمثاله بالبقاء في البيت.

ابتسم بسخرية وهو يُتمتم بحُنق: وماذا عن فواتير الكهرباء والماء والهاتف؟ ماذا عن إيجار شقته وأقساط تلك الجمعية التي اشترى بها بعض الأجهزة؟

تساءل بينه وبين نفسه: أيشعرون بنا حقًّا؟ بل هل يعلمون بوجودنا بينهم؟

تحسَّر على حاله، وعاد بذاكرته للوراء عندما كان ينتمي للطبقة المتوسطة؛ ليتساءل بغضب: هل أصبح هناك طبقة متوسطة؟!

ليُتمتم بعبارة ساخرة: لقد تلاشت، فالآن هناك فئتان فقط لا غير، فئة الأثرياء والذين يزدادون ثراءً مع كل أزمة، وفئة الفقراء الذين يزدادون فقرًا مع كل أزمة.

تنهَّد بأسى وبصوت متهدج وهو يُردِّد في صمت: ليت القائمون على أمورنا يدركون أنَّ البقاء بالبيت لمَن هم مثلي موت من نوع آخر.

استطرد يقول بحزن مشوب بالوجع: إن كان خروجي للبحث عن مصدر للرزق موت مشكوك فيه، فبقائي بالبيت هو موت مُحقَّق.

سال الدمع من عينيه قهرًا وهو يُتمتم بأسى: حتى انتظاري لإحسانٍ قد لا يأتي هو موت معنوي.

بخطواتٍ مُتثاقلة تحرَّك نحو النافذة، رفع رأسه نحو السماء يدعو الله بصوتٍ لم يغادر شفتيه، وعَبرات عجزت أن تغادر مُقلتيه؛ فتحجَّرت بأحداقه لتحرق داخلَه المشبَّع بالوجع والكثير من التساؤلات.

توسَّل لله داعيًا أن يرزقه الصبر والقدرة على التحمُّل والمواجهة؛ حتى لا يقع باليأس الذي يجعله يُنهي حياته للهروب من واقعٍ أصبح كابوسًا مرعبًا له ولمَن مثله واقع أصبح أكثر وجعًا وأقسى ممَّا يحتمله المهمَّشون.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة